الرئيسية / المقالات / قانون (العِتْق) وعلاقته بالخيل العربية الحديثة

قانون (العِتْق) وعلاقته بالخيل العربية الحديثة

سلسلة دروس شرح كتاب: (قانون صفات الخيل العربية) للأستاذ: عبد العزيز القرشي.

رقم الدرس: ٤

تاريخه: ٢٥/ ٢/ ١٤٣٦هـ

موضوع الدرس: قانون (العِتْق) وعلاقته بالخيل العربية الحديثة.

    بعد أن عرفنا في الدرس السابق معنى العِتْق عند العرب، وحدوده وقانونه، يَحسن أن نعرِّج على علاقة هذا القانون بالخيل العربية الحديثة؛ لأن الربط بين هذين الأمرين هو ثمرة هذا التنظير العلمي ولُبابه، ولا فائدة عملية فيما تقدم من الدروس إذا لم نتَبَيّن علاقتها بواقعنا المعاصر. وأنا أعني بالخيل العربية الحديثة: كل فرس عربي، وصل إلينا خبره في خلال القرن الثامن عشر، والتاسع عشر، والعشرين، وما بعدها، عبر أي وسيلة من الوسائل.

    وقد يكون في تناول هذا الموضوع قدر من الحساسية والقلق، عند بعض مربي الخيل العربية الحديثة؛ جرّاء ما خلفه الجدل العقيم -على امتداد العقود الماضية- من نظرة
سلبية إلى معنى الأصالة؛ ذلك الجدل الذي انقسم فيه عشاق الأصالة إلى فريقين: فريق ينافح عن أصالة الخيل العربية، والآخر يطعن فيها. وكان الخاسر بين الفريقين طرفين: أحدهما هي الخيل العربية الحديثة ذاتها، التي حُرمت بسبب هذا الجدل غير العلمي من التطور المنشود. وثانيهما هو الفريق الذي قرر أن يعتزل عالم الأصالة، وأن يربي الخيل العربية لذاتها وحسب؛ بسبب ما ناله من أوضار تلك المهاترات العقيمة بين المتخاصمين.

    وسبب الخصومة بين الفريقين تتمثل في أمرين فيما أرى: الأول منهما غياب البحث العلمي عن المناظرة والجدل، وهذا أدّى إلى أن أحد الفريقين لم يستطع أن يزحزح الآخر عن رأيه، أو أن يقنعه بما يريد، فأصبح الجدل عقيما. وأما ثانيهما فيبرز في النظرة الضيقة لمعنى الأصالة؛ وذلك أن الفريق الذي يدافع عن الأصالة ينطلق في فهمها من منظور النقاء التام، فيرى أن الطعن في نقاء الخيل العربية، يساوي هدم الأصالة من أُسِّها، ولهذا فإن هذا الفريق يسعى دوما إلى تجاهل النقص الظاهر في الخيل العربية الحديثة، أو محاولة تبريره. ولا يعني هذا أن جميع المدافعين عن الأصالة ينكرون النقص، لكن مقصودنا هنا التركيز على الطرف المؤثر في الظاهرة الجدلية. وأما الفريق الطاعن في الخيل العربية، فإنه يتخذ من هذا النقص مِعْولاً ليهدم به الأصالة برُمَّتها. وبين هاتين النظرتين الضيقتين ضاعت الحقيقة العلمية من وجهة نظري؛ تلك الحقيقة التي تقول: إن مفهوم الأصالة في الخيل العربية لا يعني النقاء التام، فالنقاء المطلق في إثبات أصالة الخيل العربية لا يمكن تَصوُّره إلا في الذهن المجرد، أما في الواقع فلا يمكن أن يُتَصوَّر من لَدُن العصر الجاهلي وحتى يومنا هذا، ولو كان بالإمكان تَصوُّر ذلك، لَمَا احتاج العرب إلى تحكيم الصفات على النَّسَب في إثبات عروبة الفرس وعِتْقه، ولَمَا ظهرت صفات الهُجنة في زمانهم أصلا، ولَكان يكفيهم في إثبات الأصالة والعِتْق حفظ الأنساب فقط.

    إذن فكرة النقاء التام في فهم الأصالة والعِتْق؛ فكرة لا يدعمها العقل ولا الشرع، فالعقل يقول: إنه لا يمكن تصورها إلا في التجريد الذهني، والشرع لا يكلف إلا بما يُستَطاع، والاستطاعة الواجبة في حق العرب تثبت بغلبة الظن, وليس بالقطع الرياضي المطلق، مثل: ١+١=٢. فإذا غلب على ظن العرب -في زمانهم- أن هذه الخيل عربية أصيلة، فهي أصيلة ما لم يثبت لهم خلاف ذلك، وإذا غلب على ظنهم أنها ليست أصيلة، فهي كذلك ما لم يثبت خلاف ذلك. وغلبة الظن حكم شرعي تقوم عليه كثير من أحكام الشريعة، فلو صلى الإنسان الظهر، ثم حضرت صلاة العصر وغلب على ظنه أنه طاهر، فإنه يصلي بوضوء الظهر، ولو غلب على ظنه أنه محدث، فالواجب في حقه الوضوء. وغلبة الظن حكم يُبنى على المعطيات العلمية، وليس على المزاج أو الهوى.

    فإثبات العرب القدماء لأصالة خيلهم إذن، كان عن طريق غلبة الظن وليس عن طريق القطع الرياضي المطلق، فهذا هو المُستَطاع في حقهم شرعا وعقلا، وكانت غلبة الظن عندهم قائمة على إثبات النَّسَب + السلامة من صفة الهُجنة كما تقدم معنا في الدرس الثالث، فإذا ثبت عندهم نَسَب الفرس، وخلا في ذاته من صفة الهُجنة، فإنه عربي أصيل كريم عتيق، وإذا ظهرت فيه صفة الهُجنة فإنه هجين ولو ثبت نَسَبه، وإذا سلم في ذاته من صفة الهُجنة ولم يثبت نَسَبه فإنه خارجي، وكل هذه الأحكام يؤسِّسونها عن طريق غلبة الظن، وليس عن طريق القطع المطلق الذي لا يتطرق إليه الاحتمال.

    وإذا فهمنا هذا المدخل جيدا، فإننا نستطيع -من خلاله- أن نتعرف على أصالة الخيل العربية الحديثة من عدمها؛ فيصبح ما تعارف الناس -بناء على غلبة الظن- في زمانهم على أصالته أصيلاً، وما تعارف الناس على عدم أصالته فهو كذلك. وعندما نستعرض الخيل العربية الحديثة، نجد أن عباس باشا الأول، المتوفى عام ١٨٥٤م، هو آخر محطة كبرى جمعت الخيل العربية الحديثة، من جزيرة العرب وما حولها وحافظت عليها، ثم توجت هذا العمل الكبير بمخطوطة علمية، نشرتها مكتبة الملك عبد العزيز بالرياض -مشكورة- قبل سنوات. وليس هذا مكان الحديث عن عباس باشا وجهوده في المحافظة على الخيل العربية الحديثة، فقد كفانا الشرق والغرب مؤونة هذا الحديث، فهو مبثوث في مظانّه ومتاح للجميع، إنما المقصود هنا، هو التأسيس للقول الذي أميل إليه؛ وهو أن الخيل العربية المصرية (الخط المصري)، هي أقرب الخيل العربية الحديثة لمفهوم الأصالة والعِتْق، الذي قررناه في الدرس الثالث من سلسلة هذه الدروس، حيث لم أقف في -حدود علمي- على سلالة عربية حديثة، توافرت لها المعطيات العلمية والتاريخية في ثبوت أصالتها كما توافرت للخيل العربية المصرية، فما وقفت به من أخبار خيل عباس باشا الأول، يدل -عندي- دلالة ظاهرة على هذا المعنى. وهذا لا يعني أن الأصالة محصورة في الخط المصري، إنما يعني أنها تحتل المرتبة الأولى -عندي- حتى يثبت لدي ما هو أولى بالتقديم منها. ولا يعني كذلك أنها طاهرة من النقص، بريئة من الطعن، بل النقص ظاهر فيها، فالناظر إلى أنساب الخيل المصرية، لا تخطئ عينه الانقطاع المبكر في بعض خطوطها، وعدم الاتصال المباشر بخيل عباس باشا -أو بمن بعده ممن أخذ من خيله- في بعض خطوطها الأخرى، وكذلك لا تخطئ عينه ظهور صفة الهُجنة في بعض خطوط الإنتاج، فالنقص ظاهر في الخيل العربية المصرية الحديثة، سواء من جهة النَّسَب، أو من جهة الصفات، ونخص بهذا النقص ما بعد حِقبة عباس باشا الأول ومن جاء بعده ممن حافظوا على ما بقي من خيله. وقداختلطت هذه الخطوط ببعضها، حتى أصبح التفريق بينها عسيرا اليوم، ولا ننكر أن بعض المربين أو بعض المنظمات المهتمة بالخيل المصرية قد حاولوا الفرز والاستدراك، لكنها محاولات ضعيفة وقاصرة، وفي بعض الأحيان ليست علمية. وهذا ليس موضوع بحثنا الآن، لأن مرادنا هنا أن نشير بصورة مجملة إلى وجود النقص، أما إثباته والتدليل عليه، فهذا يحتاج إلى بحث مستقل.

    وإذا اعترفنا أن شيئا من الفساد قد دبَّ في بعض عروق الخيل العربية المصرية الحديثة، فكيف يمكن إذن أن نثبت أصالتها وعِتْقها؟ هنا سنستدعي المدخل الذي قررناه في صدر هذا الدرس، ونتذكر أن أصالة الخيل العربية المصرية الحديثة، ثابتة بغلبة الظن عند الناس اليوم -في شرقهم وغربهم- من لَدُن القبائل العربية قبل عباس باشا وبعده حتى ساعتنا هذه، فهذا هو المعنى الظاهر والأصل الكبير المتواتر عند المهتمين اليوم بالخيل العربية الحديثة، وعلى هذا الأمر أدلة وبراهين ليس هذا مكان سردها، لأن المهم هنا؛ هو أن هذا الأصل الكبير الذي أوجب الشرعُ والعقلُ -علينا وعلى من سبقنا- العملَ به، لا تهدمه تلك الخروقات التي حدثت في جداره، بل سيبقى الجدار قائما طويلا عريضا، وتبقى تلك الثقوب صغيرةً ضيقة، لا تقوى على هدم جدار الأصالة المتماسك. ولو كان يحق لهذه الثقوب هدم جدار الأصالة برُمَّته، لهدمته من لَدُن العصر الجاهلي وما بعده؛ فهي قد ظهرت فيه واستمر ظهورها حتى يومنا هذا، فالعرب القدماء لم ينكروا هذه الخروقات، لكنهم حاصروها بالأصالة والعِتْق، فهم على استمرار تاريخهم يعزلون هذا الفساد كلما ظهر في خيلهم، فنظرتهم للأصالة والعِتْق ليست نظرة نقاء مطلق، إنما نظرة تغليب للصحة على الفساد، فما ثبتت صحته لا يفسد إلا إذا غلب على الظن فساده.

    وفهم الأصالة على أنها تساوي النقاء التام، هو المأزق العلمي القاصر، الذي أجج نار الخصومة بين أنصار الأصالة والزاهدين فيها، فأجبر الفريق الأول على جحد النقص أو تبريره، وأجبر الفريق الثاني على محاولة هدم الأصالة من أساسها. فلا هؤلاء أصابوا الحقيقة -من وجهة نظري- ولا هؤلاء، ووقع الضرر من كلا الطرفين على الخيل العربية المصرية، لِقاء انشغال الفريقين عن تطويرها -علميًا وعمليًا- بالجدل البيزنطي العقيم.

    وبناء على ما تقدم فإن أصالة وعِتْق الخيل المصرية الحديثة، ثابتة لا ينكرها إلا من فهم الأصالة والعِتْق فهما قاصرا، إذ ليس المطلوب منا اليوم -كما تقدم- إثبات الأصالة بالقطع الرياضي المطلق، ولا التخلي عنها بالمطلق، فكلا الطريقين لا توصل إلى الرَّشَد الذي كان عليه القدماء، إنما المطلوب أن نلتفت إلى تلك الثقوب، لنتعرف على أسباب ظهورها، وكيفية سدِّها، ومحاصرة انتشارها. وهذا جهد كبير، يحتاج من عشاق الأصالة والعِتْق إلى أن يعود الحصان أمام العربة، فيقود العلم مسيرة التطوير، ويتواضع أرباب الأموال له، فيُرخصون في سبيله الدرهم والدينار، حتى نسمع ولو بمؤسسة علمية واحدة، تُعنى بعلم الخيل العربية في وطننا العربي الكبير.

‏ للأستاذ: عبد العزيز القرشي

ماجستير في الأدب العربي/ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية­­­

الدرس الأول

الدرس الثاني

الدرس الثالث

شاهد أيضاً

قفز الحواجز .. تضبط الحياة

امتطاء صهوة الجواد والتدرب على فروسية قفز الحواجز ، تملئ الأوقات سعادة غامرة و حماس …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: الحقوق محفوظه لموقع صهيل
X